عام 2019، خاض الممثل الهزلي فولوديمير زيلينسكي الانتخابات الرئاسية في مواجهة الرئيس الأوليغارشي بترو بوروشينكو، وكان شعاره الرئيسي “مكافحة الفساد”. زيلينسكي الذي كان قد أدى دور البطولة في مسلسل “خادم الشعب”، ومثّل دور رئيس نزيه يكافح الفساد، نجح في نقل دوره من التمثيل إلى الواقع بعد فوزه بنسبة 75% من الأصوات في مقابل 25% لغريمه بوروشينكو.
وقد صدرت تحليلات لعلماء اجتماع وسياسة تعزو فوز زيلينسكي إلى ضيق صدر الشعب الأوكراني من الفساد الذي انتشر في البلاد بعد انهيار الاتحاد السوفياتي واستقلال أوكرانيا عام 1991، لكن الفضيحة التي فجرها الصحافي الاستقصائي الأميركي سيمور هيرش قدمت صورة معاكسة عن الرجل، وركزت الضوء على تورطه في الفساد حتى أذنيه.
هيرش: زيلينسكي اختلس 400 مليون دولار
قبل أسابيع قليلة، كتب الصحافي الاستقصائي الشهير سيمور هيرش متهماً زيلينسكي باختلاس 400 مليون دولار من أموال المساعدات الغربية المخصصة لدعم المجهود الحربي الأوكراني ضد روسيا.
وقال هيرش إن اختلاس الأموال كان “في إطار سمسرات في عمليات لشراء وقود الديزل للقوات الأوكرانية”. وكان مدير وكالة المخابرات المركزية وليام بيرنز هو من أثار هذه القضية مع زيلينسكي، وذكر فيها أسماء عشرات من المسؤولين الأوكرانيين المتورطين في العملية، إضافة إلى الرئيس الأوكراني.
ويبدو أن المعلومات وصلت إلى الاستخبارات المركزية الأميركية من خلال جنرالات في الجيش الأوكراني غاضبين على زيلينسكي لأنه لم يشركهم في حصص من الأموال المختلسة.
وقد قدّم بيرنز لزيلينسكي قائمة بـ35 جنرالاً ومسؤولاً كبيراً كان فسادهم معروفاً لوكالة المخابرات المركزية وآخرين في الحكومة الأميركية، وتعهدت الولايات المتحدة بمراقبة كيفية إنفاق أوكرانيا أموال المساعدات بحزم. وقد أعلن المتحدث باسم وزارة الخارجية الأميركية نيد برايس بإجراء مراقبة صارمة لضمان عدم تحويل المساعدات الأميركية لجيوب المسؤولين الأوكرانيين.
هذا الأمر دفع زيلينسكي إلى إقالة أكثر من 10 مسؤولين وردت أسماؤهم في القائمة، على رأسهم رئيس المحكمة العليا الأوكرانية فسيفولود كنيازيف والقائم بأعمال وزير التنمية فاسيلي لوزينسكي، فيما أعلن نائب رئيس أركان الجيش الأوكراني كيريلو تيموشينكو استقالته من منصبه.
وتكشف الوقائع أن تورط زيلينسكي في الفساد ليس أمراً جديداً، بل يعود إلى ما قبل انتخابه رئيساً تحت شعار “مكافحة الفساد”. والجدير ذكره أن الوقائع التي تكشّفت بعد ذلك أفادت بأنَّ زيلينسكي نفسه كان فاسداً، وأن الانتخابات التي خسر فيها بوروشينكو لم تكن إلا عملية تصفية حسابات بين الأوليغارشيا الأوكرانية التي كان زيلينسكي واجهة لبعض أركانها.
العلاقات مع بعض أركان الأوليغارشيا الأوكرانية
وقبل أن يصبح زيلينسكي رئيساً، كان على تواصل مع عدد من الأوليغارشيين الأوكران، وعلى رأسهم إيغور كولومويسكي، وهو رجل أعمال ملياردير يمتلك القناة التلفزيونية التي كانت تبث برنامج “خادم الشعب” الذي أدى زيلينسكي دور البطولة فيه.
وقد دعم كولومويسكي زيلينسكي علانية، وخصوصاً أنه كان يريد الانتقام من بترو بوروشينكو الذي كان قد أصدر قراراً بوضع الدولة يدها على مصرف “بريفات بنك” الذي يمتلكه كولومويسكي. ومن المعروف عن الأخير أنه جمع ثروته من قطاعي المصارف والطاقة، وكان المؤسس المشارك لـ”بريفات بنك” الذي كان أكبر مصرف تجاري في أوكرانيا.
وعام 2016، قام الرئيس الأوكراني السابق بوروشينكو بتأميم المصرف بسبب مخالفات مالية. لذا، استغل كولومويسكي نفوذه الكبير وامتلاكه أسهماً في عدد كبير من الشركات، من وسائل إعلام وطيران وعقارات، لتجييرها لدعم زيلينسكي ضد بوروشينكو.
كذلك، من المعروف عن زيلينسكي علاقته بأوليغارشي أوكراني آخر هو سيرغي تاروتا، وهو رجل أعمال ملياردير وسياسي شغل منصب حاكم منطقة دونيتسك خلال الأزمة الأوكرانية. وقد عيّن زيلينسكي تاروتا مستشاراً له في التنمية الاقتصادية بعد انتخابه رئيساً لأوكرانيا.
ومعروف عن تاروتا امتلاكه حصصاً كبيرة في شركات صناعات الصلب والزراعة في أوكرانيا، خصوصاً في منطقة الدونباس، وهو مؤسس ومالك الاتحاد الصناعي لشركة “دونباس كوروبوريشين”؛ أكبر شركة أوكرانية منتجة للصلب. وقد شغل تاروتا منصب محافظ منطقة دونيتسك من آذار/مارس 2014 إلى شباط/فبراير 2015.
وقد كانت ممارساته الفاسدة كمحافظ أحد أسباب اندلاع الأزمة وتسعيرها في منطقة الدونباس عام 2014، والتي قادت إلى اندلاع الحرب مع روسيا عام 2022. وقد كان تاروتا أيضاً عضواً في البرلمان الأوكراني، ممثلاً لحزب المناطق، من 2007 إلى 2012.
فضيحة وثائق باندورا
والجدير ذكره أنَّ الولايات المتحدة تعرف الكثير عن فساد زيلينسكي، إلا أنها لم تثر هذه المسألة إلا حين مد الرئيس الأوكراني يده على أموال مساعدات أميركية مخصصة لأوكرانيا؛ فقبل سنتين، أثيرت فضيحة كبيرة كشفت تورطه في الفساد حين ذُكر اسمه بين الشخصيات العالمية المتورطة في تهريب الأموال وتبييضها، وهي القضية المعروفة بوثائق باندورا.
وفي تقرير أعدّه لوك هردينغ وإيلينا لوجينوفا وأوبري بلفورد لصحيفة “الغارديان” البريطانية عام 2021، تم الكشف عن فساد زيلينسكي في هذه الوثائق التي تم تسريبها إلى الاتحاد الدولي للصحافيين.
وكشفت الوثائق أن زيلينسكي شارك في شبكة من الشركات الخارجية المملوكة بشكل مشترك مع أصدقائه القدامى وشركاء أعمال التلفزيون، من بينهم سيرغي شيفير، وهو المنتج السابق لعروضه المسرحية، وبوريس شيفير، وهو الأخ الأكبر لسيرغي شيفير، وهو كاتب النصوص المسرحية.
يضاف إلى هؤلاء إيفان باكانوف، وهو صديق طفولة زيلينسكي. وقد كان المدير العام لاستوديو “كفارتال 95” المملوك للرئيس الأوكراني. هؤلاء جميعاً من البلدة التي ولد فيها الأخير، واسمها كريفي ريه. كذلك، فإن المجموعة ضمت أندريه ياكوفليف، وهو مخرج أفلام زيلينسكي. وقد عينه الرئيس الأوكراني مستشاراً له.
وقد أظهرت وثائق بندورا امتلاك زيلينسكي شركة “فيلم هيريتاج” التي تمتلك بدورها 25% من شركة “ديفيرجا”، وهي شركة قابضة مسجلة في قبرص. بدورها، تمتلك شركة ديفرجا شركة أخرى هي “مالتيكس مالتيكابيتال كوربوريشين” المسجلة في الملاذ الضريبي “فيرجين إيلاند”.
وأظهرت الوثائق أن زيلينسكي وشركاءه في العمل استخدموا شركات مقرها جزر فيرجن البريطانية وبليز وقبرص في عمليات تبييض أموال تعود إلى شركات أوكرانية مملوكة للأوليغارشيين الأوكران المقربين إليه.
أما الأصول المملوكة من خلال هذه الشركات الخارجية واسعة النطاق، فتشمل عقارات في لندن، من ضمنها شقة في مبنى قصر إدواردي في ريجنت بارك تم شراؤها عام 2016 بمبلغ 1.575 مليون جنيه إسترليني، وشقة أخرى في شارع بيكر القريب في مقابل متحف شيرلوك هولمز، وتم شراؤها بمبلغ 2.2 مليون جنيه إسترليني. كذلك، تمتلك شركة كاندلوود للاستثمارات التابعة لشركة ياكوفليف في جزر فيرجن البريطانية شقة فاخرة في مبنى قصر فيكتوري في آرتيليري رو وستمنستر.
زيلينسكي واجهة لكولومويسكي!
وفي تقرير للصحافية كاتيا جورتشينسكايا نشر عام 2020 حول تاريخ الفساد في أوكرانيا، تم التركيز على علاقة زيلينسكي بإيغور كولومويسكي. ويتحكم الأخير في أصول متعددة عبر قطاعات مختلفة في أوكرانيا، بما في ذلك الصناعات الثقيلة والنفط والغاز والوسائط والمعادن الحديدية والمواد الكيميائية والزراعة والنقل الجوي.
وفي السنوات التي سبقت رئاسة زيلينسكي، هرب كولومويسكي من الملحقة القضائية في أوكرانيا، ولجأ إلى سويسرا والكيان الصهيوني. وكما أشرنا سابقاً، فقد دعمت إمبراطورية كولومويسكي الإعلامية زيلينسكي خلال الانتخابات في مواجهة بوروشينكو، وهو الخصم اللدود لكولومويسكي.
وقد كان للرئيس الأوكراني علاقة بالأوليغارشي الثري تعود إلى العام 2012، عندما وقعت شركة “كافراتال” 95 عقداً مع شركة “كولومويسكي ميديا هولدينغ الإعلامية” لإنتاج المسلسلات والأفلام.
والجدير ذكره أن هناك أكثر من 400 دعوى ودعوى مضادة تتعلق بمصرف “بريفات بنك” المملوك لكولومويسكي في عدد من البلدان، من ضمنها أوكرانيا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة وسويسرا، إذ تحاول إدارة المصرف الجديدة إثبات وجود احتيال واسع النطاق والحصول على تعويض من الأوليغارشيا وشركاتها المتعددة.
وقد أعيد البنك الذي تم تأميمه عام 2016 إلى كولومويسكي بعد انتخاب زيلينسكي رئيساً، فيما تعرضت فاليريا جونتاريفا، وهي حاكمة سابقة للبنك الوطني يُنسب إليها الفضل على نطاق واسع في تنظيف القطاع المصرفي وملاحقة “بريفات بنك”، لسلسلة من محاولات الاغتيال التي اتهم بها كولومويسكي، بما في ذلك محاولة دهسها في لندن وإحراق منزلها خارج كييف، إضافة إلى إحراق سيارة زوجة ابنها في كييف، وتفتيش مفاجئ لشقتها من قبل منفذي القانون الملثمين في كييف.
وقد خيمت القضايا العالقة المرتبطة بـ”بريفات بنك” على السياسة الأوكرانية، وخصوصاً على العلاقات بين أوكرانيا وصندوق النقد الدولي. وقد وافق الصندوق على إعطاء حزمة مساعدات جديدة لأوكرانيا في كانون الأول/ديسمبر 2019، لكنه اشترط عليها تمرير قانون يمنع مالكي المصارف السابقين من الطعن في التأميمات والحصول على تعويضات، وسرعان ما أطلق عليه اسم “قانون مناهضة كولومويسكي” في أوكرانيا.
Discussion about this post