شهد الأسبوعان الماضيان تدهوراً كارثياً للوضع المعيشي للسوريين، لم يتعرضوا له طوال فترة الحرب، التي خيضت منذ أكثر من 12 عاماً، وقد تكون هذه الفترة هي الأصعب في تاريخهم المعاصر، فالضغوط الاقتصادية المتزايدة، وغير واضحة المعالم والنهايات، تزيد من حدة القلق المرافق، الذي ينتاب السوريين على مدار الساعة، وهم يتساءلون هل من نهاية قريبة؟
بنى السوريون آمالاً كبيرة بعد الانفتاح العربي على سوريا، وعودتها إلى الجامعة العربية، وكان من المفترض أن يشهدوا بداية خروجهم من الكارثة الاقتصادية، إثر اجتماع قمة الجامعة العربية في جدة، وخاصةً بعد المعلومات المتداولة عن الوصول إلى اتفاق إعادة الإعمار في ريف دمشق بدايةً، وفتح مصارف خاصة بدول الخليج، ليتبيّن في ما بعد أن الاتفاق كان أقرب إلى الوعود المشروطة بخطوات البدء بحل سياسي، وفق قرار مجلس الأمن الدولي 2254.
وعلى الرغم من الاندفاعة العربية نحو دمشق، التي قادتها كل من الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية، في إطار التنافس بينهما حول الدور الإقليمي لكل منهما، في منطقة غرب آسيا، التي تشهد تحولات متأرجحة بين القوى الآسيوية الصاعدة، وبين القوى الغربية التي تخوض صراعاً على استمرار وجودها كقوى مهيمنة على العالم، ما أدَّى إلى اختلاط الدوافع الذاتية لكلتا الدولتين، اللتين تسعيان لتحجيم الدورين الإقليميين لكل من إيران وتركيا استناداً إلى الملاءة المالية، مع الأهداف الأميركية، التي تخوض معركتها المصيرية مع الصين وروسيا وإيران من البوابة السورية.
لم تنجح المحاولات السورية في الضغط على الدول العربية، بعد توقيع الاتفاقيات الاقتصادية مع إيران، إثر زيارة الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي إلى دمشق، ومعه وفد رسمي هو الأضخم في العلاقات بين البلدين، على الرغم من المصاعب الاقتصادية التي تعاني منها إيران، فكان التشدد العربي واضحاً تجاه سوريا بعد قمة جدة، ومن خلفه التشدد الأميركي لممارسة المزيد من الضغوط الاقتصادية على السوريين، ما أدَّى إلى انهيار متسارع للعملة الوطنية السورية أمام الدولار الأميركي، مع موقف واضح لربط الانفتاح الاقتصادي والسياسي بمجموعة من الخطوات العملية على الأرض، التي تحدد حجم المساعدة العربية.
لعب فشل رهانات عودة العلاقات السعودية-الإيرانية، دوراً مهماً في تجميد الانفتاح العربي، بعد أن كانت الرياض تُعوّل على قطف ثمار العودة في اليمن أولاً، بضغط طهران على حلفائها أنصار الله، لكن طهران “خيبت آمال” السعودية، بعد أن دعت الرياض للتفاهم مع صنعاء مباشرةً بما يحقق مصالحهما بشكل متوازن، فكانت المفاجأة أن الموقف الإيراني هو الفصل بين الملفات، ومسؤولية أهل اليمن عن مفاوضاتهم من غير ضغوط، ما انعكس على الموقف من سوريا أيضاً.
وليست روسيا ببعيدة عن الضغوط الاقتصادية، وهي التي لعبت دوراً إيجابياً في عودة العلاقات العربية مع سوريا، بحكم علاقاتها الإيجابية المتنامية مع كل من السعودية والإمارات، بالإضافة إلى إيران وتركيا، وهي التي تنظر إلى سوريا من خلال صراعها الوجودي مع الولايات المتحدة، وتعمل مع الصين لبناء نظام إقليمي جديد في غرب آسيا، لا تملك فيه الولايات المتحدة القرار المتحكم بمساراته السياسية والاقتصادية، وهي تعدّ إنقاذ سوريا وشعبها أولوية، وذلك لا يمكن أن يتم إلا في إطار بناء نظام إقليمي جديد، يرتكز إلى الدول الراعية لملتقى أستانا، بالإضافة إلى السعودية والإمارات.
هذا النظام الإقليمي الجديد، الذي تعمل عليه موسكو بالسُبل كافة، بما في ذلك الضغوط العسكرية على الأميركيين في الجزيرة السورية، يتطلب مصالحة تركية- سورية، بالإضافة إلى المصالحة العربية، وقبل كل ذلك، مصالحة سورية داخلية، بدفع دمشق للبدء بالحل السياسي الداخلي، الذي يوفِّر مستلزمات الأمن الداخلي للسوريين، الممزقين بين 4 مناطق، عدا عن الأعداد الكبيرة للاجئين في دول الجوار وأصقاع الأرض، وهذا ما دفع بموسكو إلى عدم المساعدة الاقتصادية، وتأجيل التوقيع على اتفاقيات لأربعين مشروعاً اقتصادياً، بانتظار بدء الخطوات الأولى لاجتماع السوريين.
والصين بدورها ابتعدت عن تقديم المساعدات الاقتصادية الفاعلة، وهي التي تبنّت من البداية، وفقاً لسياستها العامة، عدم الدخول بأي استثمارات اقتصادية في المناطق الفاقدة لأمنها واستقرارها، وهي على الرغم من دعمها السياسي الكبير لسوريا في مجلس الأمن الدولي، بالتوافق مع روسيا، فإنها نأت بنفسها عن الاستثمار في المشاريع الاقتصادية، لغياب التشريعات الاقتصادية المحفزة والمُسهلة للاستثمار، ولغياب بيئة العمل الاقتصادي الطبيعي، وقد دفعتها العوامل الثلاثة السابقة إلى تغيير مخطط مسار طريق الحرير التاريخي، بعبوره من العراق بتفرعين لا يمرّان من سوريا، الأول إلى تركيا ثم أوروبا، والثاني إلى الأردن ثم شمال أفريقيا.
يشكل العراق أحد المخارج المحدودة للمساعدة الاقتصادية لسوريا، وخاصةً بعد زيارة رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني الأولى لدمشق، كما يشكل سوقاً اقتصادية استهلاكية مهمة لدول الجوار، وخاصةً تركيا وإيران، وهو يستطيع أن يؤمن سوقاً للإنتاج الزراعي والصناعي السوري، بما يمكن أن يؤمن موارد مالية، تقدر بحدود 3 مليارات دولار، عدا التفاهمات حول تفعيل نقل النفط العراقي إلى شرق المتوسط، وسكك الحديد للنقل البري، ولكن هذا الأمر هو أقرب إلى التمنيات، بفعل العامل الأميركي المانع لاجتماع سوريا والعراق من جهة، ولو بالحدود الدنيا، أو لعدم وجود بنية اقتصادية سورية، قادرة على منافسة البنى الإنتاجية لكل من تركيا وإيران، عدا عن القوى الاقتصادية العالمية.
يلعب الداخل السوري دوراً أساسياً في إغلاق الخيارات الاقتصادية، وخاصةً بعد الفشل في تحويل التهديدات إلى فرص، أسوةً بالكثير من الدول، التي استطاعت أن تحول العقوبات الاقتصادية الأميركية عليها إلى فرصة للتنمية الاقتصادية والعلمية والسياسية، وهو بوضعه الحالي الذي غابت فيه القوى الاقتصادية الطبيعية عن المشهد الاقتصادي بالهجرة، مع هجرة رؤوس الأموال والخبرات المتراكمة، بما يفاقم الوضع المعيشي الضاغط على السوريين، مع الاستمرار بالمزيد من النزيف للموارد البشرية.
وعلى الرغم من سوداوية اللوحة الاقتصادية السورية، وإغلاق كل أبواب التخفيف عن السوريين، فإن الكثير من الإجراءات القانونية والاقتصادية الداخلية، يمكنها أن تساهم بجزء لا يستهان به، في حل الكارثة الاقتصادية، بانتظار التوافق الداخلي السوري، الذي لا بد منه للتوافق الإقليمي والدولي.
Discussion about this post