يكشف تعثّر المفاوضات لوقف الحرب في اليمن عن تباين الأجندة السعودية-الأميركية، بما يتعلق بمخرجات الأزمة. فبينما ترى المملكة ان انهاء الحرب دون “تحجيم” صنعاء إضافة للإبقاء على نفوذها في المحافظات النفطية والساحل، هو تهديد لأمنها القومي، تفكر الولايات المتحدة بمنطق مخالف، بعد انا استفادت -على ما يبدو- من تجربة الرئيس الأسبق جيمي كارتر، حيث كان اليمن، أحد صدمات أواخر سبعينيات القرن الماضي.
اقتصر الدور الأميركي في بداية الحرب على بعض الدعم السياسي واللوجستي العسكري، اذ كان بغالبيته بصفقات دفعت الرياض ثمنها كاملاً، على الرغم من ان اعلان بدء العدوان كان من البيت الأبيض. فيما استطاعت الرياض لاحقاً، اقناع الإدارة الأميركية بزيادة التسليح، وكانت القوة المتعاظمة لصنعاء، والضربات النوعية التي نفذتها -منها استهداف السفينة الحربية الاميركية يو اس اس ميسون، في تشرين الأول/ أكتوبر عام 2016- أحد اساليب الاقناع السعودية.
كانت الحماسة السعودية لشد واشنطن إلى المستنقع، أكبر بكثير من رغبة الأخيرة. فالأجندة الأميركية في اليمن، ترتكز على محددات ثلاث، كانت تحاول طيلة الفترة الماضية اقناع صنعاء بها، دون إعطاء لرأي الرياض هامشاً واسعاً في سلطة قرار وقف الحرب من عدمه. وبحسب مصدر مطلع على المفاوضات، فإن الإدارة الأميركية أبلغت صنعاء بشكل غير مباشر، عبر القنوات الدبلوماسية، قائمة من 3 مطالب، توقف بموجبهم الحرب وترفع الحصار:
-باب المندب أمميّاً لا يمنيّاً: يتصل اسم المضيق بذكرى غير سارة بالنسبة للولايات المتحدة وكيان الاحتلال. ولمنع تكرار ما جرى في حرب أكتوبر عام 1973، مع ثقة الإدارة الأميركية ان لصنعاء القدرة على تكرارها، -لو أرادت- تحاول واشنطن جاهدة ابعاد النيران عن تلك المنطقة، التي تستغلها ملاحياً وتجارياً وعسكرياً للتجسس والمراقبة والتهديد.
في 15 اذار/مارس عام 2017، أطلع القائد الأعلى للقوات الأميركية في المنطقة جوزيف فوتيل، لجنة القوات المسلحة في الكونغرس، على مجريات الأحداث: “هناك مصالح أمريكية حيوية على المحك… بدعم من إيران، أصبح المضيق عسكرياً، مع دفاع متعدد الطبقات من الصواريخ الساحلية وأنظمة الرادار والألغام والقوارب المحملة بالمتفجرات… هذا تهديد لعملياتنا الأمنية”. بعدها، عززت البحرية الأميركية وجودها، وتم استقدام المدمرة كول إلى تلك المنطقة.
-ألا يشكل اليمن تهديداً لإسرائيل: تعرفت الإدارة الأميركية على حركة الشباب المؤمن ثم أنصار الله، بالصرخة التي أطلقها الشهيد السيد حسين بدر الدين الحوثي. كان اليمن قبلها، هامشياً في السياسة الخارجية الأميركية، مع وجود رئيس يمني موال لواشنطن، وحشد من الأحداث التي اتخذت حيزاً أكبر من الاهتمام كأحداث 11 أيلول ثم غزو العراق وأفغانستان. وكان الشعار كفيلاً بالتعريف: زوال إسرائيل عقيدة يؤمنون بها.
اليوم، بعد اعلان قائد الحركة، السيد بدر الدين الحوثي، الدخول بالمعادلة الإقليمية، التي أطلقها الأمين العام لحزب الله، السيد حسن نصرالله، وامتلاك القدرة العسكرية والبشرية لذلك، إضافة للتدخل الإسرائيلي المباشر في حرب اليمن، أصبحت الهواجس الأميركية والإسرائيلية تتزايد، خاصة بعد استهداف القوات المسلحة اليمنية لرأس تنورة، في رسالة وصلت مباشرة إلى تل أبيب.
-انهاء النفوذ الإيراني في اليمن: ترى واشنطن بأن “النفوذ الإيراني” يتزايد، وتعتقد ان امتداد هذا الحضور لمنطقة استراتيجية كاليمن، سيترك بأثره البالغ على عدد من ملفات المنطقة. في حين، ان مطالبتها لصنعاء بالحد من هذا النفوذ، والاعراض عن تلقي أي دعم او قطع أي علاقة، يعني انها غير مدركة لطبيعة العلاقة بين الجانبين، والتي أوضحتها أخيراً الأحداث التي جرت بعد توقيع الاتفاق السعودي الإيراني. ففي الوقت الذي اعتقدت فيه الرياض ان توقيع الاتفاق سينهي حرب اليمن، تلوّح صنعاء مجدداً بالتصعيد، اذا ما استمرت المماطلة في تنفيذ الشروط ورفع الحصار.
رفضت صنعاء تلك المطالب مجتمعة. مؤكدة على انها لن تنفذ أي اعمال عسكرية تضر بطرق الملاحة البحرية او تؤثر على أمن المنطقة، إضافة الى انها ليست “تابع” لطهران، بل صديق لها. مشددة على انها لن تقبل بطرح او مناقشة البند الثاني تحديداً، لما تعتبره مسّاً بهويتها ومبادئها الإسلامية.
ما وراء هذا التباين؟
عند انتصار الثورة الإسلامية في إيران، شعرت الولايات المتحدة بأنها خسرت حليفاً استراتيجياً تاريخياً في المنطقة. ولهذا كانت طيلة الفترة السابقة لسقوطه، تسعى جاهدة لمنع ذلك. اليوم، يختلج السعودية الشعور نفسه: “الخسارة التي ستقوّض النفوذ وتؤسس لمرحلة جديدة”. اذ ان تراجع نفوذها في اليمن، يعني خسارتها لمخزون نفطي على حدودها وفي الداخل، واحباطاً لمشروعها في الاستغناء عن المرور بمضيق هرمز، عبر الممر البري من حضرموت للمكلا، إضافة للأسواق الاستهلاكية اليمنية التي تغرقها بمنتجاتها، والترانزيت والتجارة والموانئ، ثم التبعية السياسية التي استمتعت بها خلال عقود ماضية. ففي الوقت الذي ترى الأولى ان الوصول لاتفاق وقف إطلاق نار شامل، يمكن ان يناقش مع صنعاء على بعض الأمور، تعتقد الرياض بأن الاعتراف بحق صنعاء بالتفاوض والتعامل معها كأمر واقع، هو بحد ذاته مشكلة، بعد أن كانت قد شنت الحرب للقضاء عليها.
كيف أثر اليمن في بناء عقيدة كارتر؟
في 7 مارس 1979، وقع الرئيس جيمي كارتر القرار الرئاسي 79–6، للموافقة على بيع الطائرات والدبابات وناقلات الجنود المدرعة إلى الجمهورية العربية اليمنية (اليمن الشمالي). وفي اليوم نفسه، أمر حاملة الطائرات “يو إس إس كونستليشن” بالتوجه إلى خليج عدن، قبالة الساحل اليمني. وكان بيع الأسلحة، وفقاً للقرار، “في مصلحة الأمن القومي لواشنطن”.
كانت العلاقات بين الولايات المتحدة وجمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية متوترة منذ حصول الأخيرة على استقلالها في عام 1967، نتيجة الصراع العربي الإسرائيلي، والموقف اليمني ضد احتلال فلسطين، إضافة لاختلاف المصالح في عدد من القضايا في القرن الافريقي والجزيرة العربية…
قطعت العلاقات الدبلوماسية مع الولايات المتحدة عام 1969، واستمر العداء بين البلدين طوال معظم سبعينيات القرن العشرين، لأسباب عدة، أولها حضور الاتحاد السوفياتي القوي في جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية. ووفقا لبعثة مسح موظفي الكونغرس في عام 1977، فقد حضر إلى اليمن “عدة مئات من الكوبيين و116 من ألمانيا الشرقية وعدد كبير من السوفييت كمستشارين عسكريين في مراكز التدريب”.
وقد استلزم هذا الأمر، من وجهة نظر أميركية، ضرورة الحفاظ على جيش قوي لجمهورية اليمن العربية لتحقيق التوازن ضد تهديد مصالح الولايات المتحدة، والمملكة.
ثمة من يقول، ان أهم حدثين في تغيير سياسة كارتر في الشرق الأوسط، كان “الغزو” السوفيتي لأفغانستان والثورة الإسلامية في ايران، وهو ما أسموه “صدمات عام 1979”. لا شك أن كلا الحدثين كان لهما تأثير عميق على تفكير كارتر، إلا أن التحول بوجهة نظره في الدفاع والسياسة الخارجية قد بدأ بالفعل في التشكّل قبل وقت طويل من حدوثهما. كانت ما تسمى “الحرب اليمنية الثانية” هي الصدمة الأصغر في تلك الصدمات، لكنها لعبت دوراً فاعلاً في تأسيس عقيدة كارتر.
وصلت الولايات المتحدة خلال السنوات الماضية، إلى قناعة تفيد بضرورة تجنب التورط العسكري المباشر في أي ساحة، خلافاً لعقيدة كارتر، وبناء على ذلك، لم يكن تدخلها في الحرب على قدر توقعات الرياض وارادتها، تماماً كما هو الحال، في سعيها للخروج منها وانهائها.
Discussion about this post